مقدمة
في غرّة شهر يوليو الجاري، اكتملت 65 سنة من استقلال الصومال عن الاستعمار الأوروبي من أراضيها. وييدو أن إحياء مناسبات ذكرى يومي الاستقلال والوحدة (26 يونيو و1يوليو) اختلفت هذ العام عن السنوات الماضية وذلك من حيث الاهتمام الحكومي في الداخل والحماس الشعبي في الداخل والخارج، وهو مؤشر جيد يظهر وحدة الذاكرة الجمعية للصوماليين وتراجع مدّ الهويات الفرعية غير الجامعة. والصومال هي الدولة الـخامسة في إفريقيا والـحادية عشر عربيا التي نالت استقلالها عن الاستعمار، وفي ذات الوقت هي من أوائل الدول التي انهار نظام حكمها مبكرا على مستوى الدول العربية والإفريقية عام 1991، وتسير الآن وسط رحلة شاقّة لبناء دولة متماسكة المفاصل وإيجاد نظام حكم مستقر قادر على تنفيذ الالتزامات الدستورية. والصومال رغم أنها حققّت تقدما قياسا في مجالات التنمية الاقتصادية وبناء جيش محترف وتحقيق إنجازات دبلوماسية في مساندة القضايا الإسلامية ودعم تحرّر شعوب إفريقيا من قبضة الاستعمار؛ إلا أنها مازالت تواجه تحديات الاستقلال في اختيار الحكم المناسب على خصوصيتها المتميزة وتحقيق روح التعاون الوطني بين أصحاب المصلحة في القضايا المشتركة والقضاء على الإرهاب وتحصين الوحدة الوطنية المهدّدة لأكثر من مصدر.
خصوصية الحالة الصومالية
تُعد الصومال واحدة من الدول التي لها خصوصية استثنائية فريدة من نوعها من بين الدول الـ 193 الأعضاء في الأمم المتحدة، من حيث النظر إلى استمرارية الحياة وعلى استقرار النظام كدولة متماسكة الأجزاء. وتظهر تلك الخصوصية بالنظر إلى الدول العربية والإفريقية التي تنتمي إليهما من النواحي التالية:
- سيادة التجانس العرقي والعقائدي والمذهبي واللغوي في تركيبتها البشرية، حيث تنحدر غالبية السكان من العرق الصومالي المتجذر في منطقة القرن الإفريقي منذ آلاف السنين ولا يوجد بين الأغلبية السكانية وبين الأقليات المختلفة أي حساسيات معروفة تذكر ولا أي نزوعات انفصالية مقلقة لوحدة الدولة في المستقبل المنظور
- الانهيار المبكّر للنظام بعد ثلاثين سنة من الاستقلال والوحدة عام 1960 وسيادة حالة من عدم استقرار سياسي تجاوزت مدته الزمنية فترة استقرار الدولة رغم وجود هيئات حكومية منتخبة من قبل المؤسسات الدستورية منذ عام 2000م.
- الموقع الجغرافي المتميز من نوعه الرابط بين قارة إفريقيا بآسيا وبحر العرب بالمحيط الهندي ويطلّ على مضيق باب المندب الذي يمرّ عبره 4.7 ملايين برميل من النفط ويقع كذلك على عمق منابع النفط في الخليج، وهو موقع جعلها عرضة للتنافس الدولي على مدى تاريخها المدوّن وحافزا للتدخلات والأطماع الإقليمية المتكرّرة من حين لآخر، وازدادت أهميتة أكثر منذ افتتاح قناة السويس 1869 وبروز الترابط المصيري بين خليج السويس وخليج عدن .
وأغلبية الدول في القارة السمراء وكذلك المنطقة العربية التي شهدت على حالة الانهيار أو عانت من متاعب عدم الاستقرار التي تتعافى منها الصومال من بعض فصولها؛ كانت قضية التمايزات العرقية والدينية وربما المذهبية سببا من أسباب تصدّع مفاصل النظام أو جسرا نفذت من خلالها أجندات الدول المستهدفة لتدمير الدولة دون أن تكون ذلك بالضرورة عاملا حاسما في قضيتي الانهيار أوغياب الاستقرار المتين.
والمعايير المعتمدة من قبل مؤشرات الحوكمة العالمية من البنك الدولي (Worldwide Governance Indicators from the World Bank-WGI) لاستقرار الدول هي: عدم المنازعة على شرعية الحكومة، وغياب العنف والصراع المحلي، وإتاحة المجال للمواطنين في المشاركة في الشأن العام بالإضافة إلى قدرة الهيئات الوطنية على تقديم الخدمات الضرورية ووجود نسبة عالية من التجانس السكاني وخطة للتنمية المستدامة في الدولة. وسابقا، حققّت الصومال تجربة استقرار سياسي رائد في المنطقة العربية والإفريقية، وهي أول دولة في أفريقيا السمراء عرفت بثقافة التعددية الحزبية والانتخابات المتعددة المستويات (الحزبية، البلديات والبرلمانات) وثقافة التدوال السلمي للسلطة في القارة في 1967م وطبقت مبدأ فصل السلطات في العهد المدني، ومصنّفة حاليا على أنها من أكتر الدول المشهودة بالانتقالات السلمية للسلطة على مستوى المنطقة، ومع ذلك فإن مرور زهاء 30 تشكيلة حكومية، وعشرة رؤساء دولة، وحدوث 4 محاولة انقلابات حكم، فضلا عن خوض 4 حروب إقليمية غير الحروب الأهلية؛ يعتبر مؤشرا كافيا عن بحث الصومال المستمّر على استقرار سياسي متين يحققّ لها أهداف الاستقلال الأربعة الرئيسية للدولة، وتترك لأصحاب الرأي والفكر مجالا واسعا لبحث الأجوبة عن أسئلة تلك الإشكالية القائمة منذ العقود.
الأوضاع الدولية والإقليمية المحيطية بالصومال
يتزامن عيد الاستقلال الجديد هذ العام في وقت تتزايد فيه عسكرة الصراعات الدولية ويتهاوي فيه عقد النظام الدولي وانتهى اعتبار القانون الدولي مرجعية محتكمة في الصراعات الدولية ابتداء من غزو العراق عام 2003 وصولا إلى أوكرانيا ثم حربي غزة وإيرن. ويبدو أن العالم يشهد سباق تسلح غير مسبوق بعد انسحاب القطبين النوويين من جميع الاتفاقيات الثنائية المقيدة لنشر واستخدام الأسلحة الاستراتيجية واتجهت الدول النووية جمعيها إلى تحديث ترسانها النووية وخصّصت الولايات المتحدة وحدها نحو 100 مليار دولار لتحديث ترسانتها النووية البالغة نحو 5000 رأس نووي من أصل 12241 موزعة بين الدول النووية التسعة. ويعكس ذلك اتفاق دول الناتو الـ32 في قمتهم الأخيرة المنعقدة في مدينية لاهاي في يوم 25 من الشهر الماضي تخصيص 5% من الناتج الإجمالي المحلي سنويا في الإنفاق الدفاعي. وعالميا، بلغ ذلك الإنفاق الدفاعي 2.46 تريليون دولار (1.94%) عام 2024 بعد أن كان 2.24 تريليون دولار (1.80%) عام 2023، ومن المحتمل أن يصل إلى 2% من الناتج الإجمالي العالمي مع نهاية عام 2025. وبالطبع تنفق الولايات المتحدة وحدها نحو 968 مليار دولار وتأتي بعدها الصين (235 ملياردولار)، وروسيا ( 145.9 مليار دولار) ومن ثمّ تتصدر الولايات المتحدة الدولة الأكثر إنفاقا في إنتاج السلاح.
وعلى مستوى الشرق الأوسط، أصبحت أغلبية دول الخليج وكذلك تركيا ومصر والأردن وإسرائيل هي الأكثر شراء لذلك السلاح الأمريكي نتيجة إدراكها للارتباط المتبادل بين الصداقة مع الولايات المتحدة وشراء منتجها الوطني الذي هو السلاح. ومن المحتمل أن تكون منطقة القرن الإفريقي مسرحا لاستخدام ذلك السلاح بسبب أهميتها الجيبولوتيكية وكثرة القواعد الدولية المنتشرة فيها بالإضافة إلى زيادة إسرائيل إنفاقها العسكري بنحو 8% من نتاجها الإجمالي المحلي وإعلانها مؤخرا بإطلاق حرب واسعة ضد الحوثيين فضلا عن أن الحرب بينها وبين إيران توقفت من دون أن تنتهي رسميا. وتعوّل إسرائيل في حربها المتوقعة ضد الحوثين على التعاون الاستراتيجي القائم بينها وبين إثيوبيا ودعم طموحات الأخيرة في المشاطئة لمياه البحر الأحمر أو خليج عدن لاتخاذها كقواعد واستخدامها في مواجهة خطرهم فضلا عن حماية مصالحها في مياه البحر وهي تعتبر أن العلاقة بين الحوثيين وحركة الشباب تهديدا مشتركا بينها وبين إثيوبيا وخطرا على مصالحهما المشتركة في المنطقة برمتها.
ويتناغم ذلك التطور مع طموحات إثيوبيا المتنامية التي اقنعت القوى الدولية بدعم مطالبها الواقعية على حسب وصفها، وتظهر رغبتها باستغلال الواقع الدولي المضطرب لصالحها وتؤكد عزمها للوصول إلى مياه البحر الأحمر وإدراج ذلك بأنه مطلب وطني ملحّ تفرضه التطورات الجيوسياسية وضرورة وجودية لبقائها كدولة في الإقليم وهو طموح لا يتحقق إلا عن طريق ضرب الحائط بسيادة دولة الصومال للوصول إلى مياه خليج عدن أو إريتريا للوصول إلى مياه البحر الأحمر، علما بأنها مستمرّة في بناء أسطولها البحري واستكملت قريبا بناء مقرّ قواتها البحرية بدعم فرنسي وروسي. وبالإضافة إلى ذلك، تبحث إثيوبيا عن تنوع منافذ بحرية تستخدم البعض منهم لتصدير الغاز المكتشف في إقليم الصومال الغربي ولها خبرة طويلة في إتخاذ التنافس الدولي فرصة مواتية لتحقيق أطماعها الإقليمية كما حدث في عهد إمبراطور منيليك وهيلا سلاسي وتجربة قريبة من ذلك وهي عادة التنصل من الاتفاقيات المعنية بتقاسم المياه بين دول المصب والمنبع في قضايا سد النهضة الذي تستعد لافتتاحه في سبتمبر المقبل، وهو أمر يرفع مستوى التوتر في المنطقة في المرحلة المقبلة بين دول المنطقة .
ويتطابق موقف الصومال، المبدئي مع موقف كيان الدول المطلة على البحر الأ حمر وخليج عدن الثمانية الداعم إلى الاحتفاظ على الوضع الجيوسياسي للبحر الأحمر وعدم انضمام أي دولة غير مشاطئة على البحر الأحمر خصوصا مع وصول منسوب التوتر العسكري بين إثيوبيا وإريتريا إلى حافة الانفجار ووجود تقارير تحدثت عن تعاون متنامي بين المجموعات الإرهابية في البلاد والحوثيين في اليمن وبالذات حركة الشباب الإرهابية التي هي أقوى فروع القاعدة وأغناها على المستوى الدولي وفق شهادة خبراء من الولايات المتحدة. وبين الصومال وبين إرتيريا ومصر تفاهمات مشتركة نص عليها في إعلان قمة أسمرة الصادر في اكتوبر 2024، وتشاورات مستمرة تستهدف إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي ودفع جهود التنمية المستدامة.
تشخيص عاطفي وتطرف في تقييم أداء الأنظمة السياسية
قد يكون أحد الأسباب في طول أمد البحث عن نظام مستقر هو ضعف أو غياب الاجتهاد في التشخيص للأسباب المؤدية من عدمه والخلط ما بين عيوب نظام الحكم (مدني، عسكري، انتقالي وفيدرالي) وسلوك القائد السياسي الذي لا تتوافق بالضرورة مع قواعد النظم القانونية كأي بلد والخطأ في تقييم أداء النظم السياسية التي مرّت بالبلاد منذ الاستقلال أو البحث عن البديل الأفضل . وينبغي التنبيه على أن الخطأ في تشخيص الأوضاع السياسية لبلد ما، أخطر بكثير جدا من خطأ الطبيب في تشخيص المريض أو التصرف غير السوي في العملية الجراحية لمريض في لحظة العملية الجرّاح، وأن المضاعفات الناجمة من تناول دواء كيميائي يأخذه المريض بناء على وصفة طبية تكون أسوء أثرا من اختيار نموذج حكم يراد له أن يكون بديلا عن سابقيه وذلك دون المعرفة لصحة تشخيص الخيار أو التأكد من سلامة تقييم الموقف بإتزان. وربما طريقة التشخيص أو الجراحة السياسية في حالتي الانفصال في الشمال واختيار النموذج الفيدرالي عام 2004م مثال واضح لفقدان الدقة في التشخيص السليم في الحالتين .
ومن المعلوم أن انفصال المحافظات الشمالية الأحادي الجانب عن بقية الصومال عام 1991 ثمّ بناء على تشخيص سياسي بحت يصنف ما جرى من أحداث في المنطقة في تظلمات وتفسيرات جهوية وقبلية مشفوعة بمغالطات تاريخية في مسائل تقاسم السلطة والموارد القومية والوظائف الحكومية بعد الوحدة كما أن هذ التشخيص يغلب عليه سوء توظيف في مبدء حق تقرير المصير المنصوص في القانوني الدولي وتجاهل واضح لأسبقية الوحدة ما بين القوى الحزبية في الشمال والجنوب عن استقلال الشمال، بينما الحقائق تقول بأن لأهل الشمال كانت لهم حصص رئيسية في التشكيلات الحكومية في العهد المدني بطريقة أكثر من حصتهم في البرلمان والنسبة المئوية جغرافيا في البلاد إلى جانب امتيازات تفضيلية في العمل الدبلوماسي وتفضيلات خاصة في المشاريع التنموية القومية (36%) ووظائف قاربت النصف من الموطفين في جهاز الخدمة المدنية الحكومية .
والنقائص في هذ التشخيص غير الموضوعي أنه لايرى الحقائق التاريخية والمعطيات الجغرافية والديموغرافية ضرروية لبناء السردية السياسية ويجرمّ جهات بريئة من قضايا لاعلاقة لهم بما هو مختلف عليه ويبرئ أخرى مشاركة في صناعة الجريمة السياسية، وينكر دور كثيرين كانت لهم مساهمات مشهودة في الإنصاف لهم والحدّ من تقليل حجم الأذى للمآسي والمجاهرة برفض الظلم الذي وقع عليهم سابقا، وغالبا ما تكون نظرته للأمور انتقائية وتعميمية أكثر مما هي شمولية النظر. وبالنسبة للنموذج الفيدرالي المعتمد في 2004 فان الهدف الذي سوّغه المدافعون عنه هو تعزيز الحريات والهويات المحلية بما في ذلك الحكم الذاتي والتوسع في مزايا الحكم ومحلية حل النزاعات واستيعاب الفئات المهمشة أو الأقليات العرقية أو بمعنى آخر فإن الهدف الذي اعتمدت عليه دول المنطقة في النظام الفيدرالي هو بناء جسور الثقة بين المركز والأطراف والحيلولة دون استخدام المسؤول السياسي المتربع على سلطة المركز بما يعرض سكان منطقة ما من أبناء الوطن للخطر الوجودي فضلا عن تمكين المحتمعات المحلية من المساهمة في تولية شؤون أمورهم المحلية، وخلق مشتركات جامعة بين التنوع السائد في النسيج المجتمعي للدولة.
ويخلّ عن هذ التشخيص رغم وجاهة بعض من افتراضاته انعدام المقارنة بين الصومال وغيرها من دول المنطقة من حيث التجانس في التركيبة المجتمعية والدينية وكذلك الثقافية وتسويق النظام الفيدرالي على أنه الضمان الوحيد لوحدة البلاد بعد ضياع الثقة بين الشركاء وأصحاب المصلحة في الحكم الناتج من الحكم المركزي. وينبغي الإشارة إلى أنه دول مثل كينيا وغانا في القارة على سبيل المثال منحت لولاياتها المحلية سلطات وصلاحيات محلية واسعة دون أن تتبني النظام الفيدرالي ومن ثمّ لا يوجد علاقة ثابتة بين منح الولايات للصلاحيات والسلطة المطلوبة من قبل ممثليها وبين الأخذ بالنموذج الفيدرالي كنظام حكم يصون وحدة البلاد وبالإضافة إلى ذلك لا يضمن النموذج الفيدرالي استمرارية متانة الثقة بين السلطة الفيدرالية والولايات ولا يحصّن السكان في الأطراف من وقوع تعسفات معينة وشاهدنا بعد اعتماده حدوث نزاعات دموية في ميادين مختلفة في البلاد.
وفي الأصل، ليس النموذج الفيدرالي خيارا توافقت عليه القوى الوطنية المحلية على اختلاف أطيافها الممتدة في أنحاء البلاد بأنه الأفضل وإنما هو نموذج حكم فرضته قوى سياسية محدودة العدد وغير مستقلة الإرادة ، وتمّ استنساخه من إثيوبيا عبر زعماء بعض الفصائل وهو جزء من سياستها المستدامة منذ الاستقلال في تعطيل مسيرة الصومال نحو الاستقرار ويهدف إلى تقييد سلطة الدولة في التحرك عبر إطارها الجغرافي واضعاف القدرة على نهوض المؤسسات الصومالية من تبعات انهيار الدولة التي كانت هي طرفا رئيسيا في تكريسها، وهو نموذج حكم يقوم بمراجعة مكاسبه بعد أن استدركت هي قبل الصومال ربما حتمية نهايته الانفصالية. ويبدو، ان الدستور الذي هو الأساس في النظام الفيدرالي الحالي يعمّق الانقسامات السياسية بين السلطة الفيدرالية والولايات أكثر مما يقرب المسافات الآخذة في الاتساع فيما بينهما حيث أنه يحسم قضايا الوحدة الترابية للبلاد والمجتمعية للسكان ويلزم منح السلطة إلى الجهة المختصة على المستويين في الحكم و التمسك بروح التعاون بين السلطة الفيدرلية والولايات في مسائل الوحدة والأمن العام والتنمية تحديدا، ويخصصّ للسلطة الفيدرالية لمسائل الشؤن الخارجية والدفاع وكذلك الجنسية والهجرة والمالية وفي ذات الوقت، يضع مسائل تقاسم السلطة والمساعدات الخارجية والتجارة والموارد الطبيعية والوحدة محل التشاور والتفاوض بين السلطة دون مخارج دستورية واضحة المعالم ملزمة للأطراف في حالة عدم التوافق عليها.
والقاسم المشترك بين التشخيص للانفصال والنموذج الفيدرالي هو أن الاثنين يتجاهلان المصادر الرئيسية لانعدام الثقة بين القوى الوطنية سابقا التي هي :
- حاكم عسكري استولى الحكم بالقوة وحرّر بنفسه جميع القيود القانونية التي تحدّ من ممارسة سلطته الفردية وتخلص من معظم شركائه في الحكم واستوظف جميع من ارتضى بخدمته وصفىّ من اعترض على سياساته بتوحش فاضح بغض النظر عن انتماءاتهم الجهوية وليس نظام حكم مركزي بعينه.
- فقدان السلطة القضائية استقلاليتها الضرورية عن السلطة التنفيدية وفرض السلطة هيمنتها على بقية السلطات وكذلك ممارسة الحد الأقصى من ” أن الفائز يأخذ كل شيء” التي تبناها حزب الأغلبية في عهد الحكم المدني.
- فقدان الموضوعية في التشخيص للأوضاع وغلبة التطرف في التقييم لأداء الأنظمة وعدم وضع حد فاصل بين عيوب النظام المركزي ومساوئ الحكم الفردي العسكري وتغليف سرديات الانفصال والنموذج الفيدرالي بأهداف سياسية تخدم فئات محدودة.
- دور الدوائر المقربة من الحاكم والذين خدموا في النظام الفردي بإخلاص وكانوا طرفا فاعلا في نسف الثقة وقطع دابر كل مساعي الصلح ورؤية الكثير منهم يعيشون في أوساط المدافعين أعزاء إلى درجة أصبح بعضهم قادة في مستويات عليا مختلفة في منظومة الحكم المحلية
الاستقرار ضرورة لبناء الدولة الفاعلة
لم يتوقف بحث الصومال عن استقرار سياسي متين منذ الاستقلال والوحدة. والاستقرار ليس مجرد طموح قومي بل ضرورة حياتية ووجودية لتنمية المجتمع الصومالي وبقاء الدولة موحدة ومتماسكة والخروج من قائمة ضمن الدول الـ 10 الأكثر فقرا في العالم. وهناك أكثر من عامل ومصدر يؤدي إلى خلق حالة من عدم الاستقرار في البلاد ويمكن تفكيكه إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية وأقواها تأثيرا هو العوامل الداخلية قبل الخارجية المعروفة الغاية والقصد من وجودها. ويلعب التشخيص غير السليم على طبيعة الأوضاع والتطرف في التقييمات على الأمور والتشدد في منصات الحوار الوطني دورا رئيسيا في استدامة عدم الاستقرار السياسي، ويشكل معوّقا رئيسيا في تحقيق أهداف الاستقلال الموضوعة قبل الحرية بكثير. ومن المفلت للنظر بأن سعي بعض القوى الوطنية في فترات مختلفة إلى البحث عن نظام حكم مستقر او إيجاد صيغة حكم بديلة عن الأنظمة السابقة فيه هامش من واسع الجدية او مساحة كبيرة من حسن النوايا دون أن يكون ذلك دقيقا في صحته أوعمليا في استمراريته، وربما يكون مثال ذلك هو اعتبار الناس على للانقلاب العسكري الحاصل في البلاد عام 1969 في حينه إنقاذا محققا للبلاد من الحكم المدني والتعاون الجماعي فيما بينهم لاحقا للقضاء عليه بالسلاح والهتافات.
والعاملان الحاسمان في تطوير النظم السياسية للدول وتنمية المجتمعات هو جودة القيادة السياسية ونمو الوعي القومي الذي يعرف طريقة مكافئة لقيادته السياسية عند الضرورة والجزاء عند اللزوم، مما يعني أن رشد العنصر البشري (المسؤول والمواطن) هو العنصر المحوري في التحولات السياسية والتنمية الاقتصادية الضرورية لنهوض الشعوب وإلا، لكانت جميع الدول المتبنية بالنظام الفيدرالي (25 دولة) أكثر رخاء من الدول التي لديها نظام حكم مركزي أو العكس، ولكانت الدول المنفصلة عن الدولة الأم مثل جنوب السودان أكثر استقرارا من غيرها.
وفرص الصومال في تحقيق أهداف الاستقلال والخروج من متاعب عدم الاستقرار واضحة المعالم وممكنة التحقيق. والاستقرار ضمان لدحر وجود الإرهاب الشرس وضرورة لاستثمار الثروة البحرية واستغلال الثروات المعدنية والمائية والحيوانية الهائلة في أراضيها ومرهون بقدرة الدولة لحماية وحدة البلاد والحفاظ على تماسك مفاصله، وبدونه يكون من الصعب الخروج من تعثر مسار الدستور المؤقت منذ 2012 والاستغناء عن المساعدات الخارجية المتراجعة وتحقيق الأمن الغذائي والتغلب على تحديات الأمية القائمة في حدود 65% للذكور وذلك رغم بذل الحكومات سواء المحلية والفيدرالية جهود مقدرّرة على كسر تلك الأرقام المقلقة في مستقبلها بالمقارنة مع محيطها الجغرافي (49.1%) في إثيوبيا وكينيا (38.5%) وتنزانيا (17%).
خاتمة
تزاد آمال انتعاش الوحدة في الذاكرة الجمعية للصوماليين مع مرور 65 عاما من الاستقلال والوحدة للبلاد وتراجع جدوى الهويات الفرعية غير الجامعة. وتجتمع عند الصومال ثنائية الاستقلال المبكر والانهيار المبكر رغم ما يسود عند أغلبية تركيبتها السكانية من تجانس متكامل نادر الوجود على مستوى القارة والمنطقة العربية. والصومال، حققت سابقا تقدما قياسيا في معدلات البناء والتنمية وتوفير الخدمات الضرورية للمواطن، وتسير الآن وسط رحلة ومسار طويل لإعادة البناء وتحقيق أهداف الاستقلال الرئيسية والحفاظ على سيادتها الوطنية. والجهود المختلفة التي أرادت القوى السياسية الوطنية لتحقيق استقرار سياسي متطابق مع معايير الحوكمة الدولية، تميزت بفقر التشخيص أو التطرف في تقييم الموقف ولم يسلم كثير منها من اختراقات أجنبية وتنفيذ أجندة دول غير صديقة للصومال، ومن ثمّ هي لم تؤدي إلى نتائج مثمرة وحلول قابلة للاستمرار على المدى الطويل.
وقد يكون قضايا الانفصال الأحادي في الشمال والطروحات في النموذج الفيدرالي وكذلك الإرهاب مثالا واضحا على ذلك، لأنهم جميعا يقومون على تشخيصات غير سليمة وجرّاحات سيوسولوجية ناقصة الشروط ومغالطات تاريخية غير دقيقة، وتصلب في المواقف عند التسويات السياسية. والصومال تملك مستقبلاً واعدًا، فهي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي، وموارد بشرية شابة، وثروات طبيعية تؤهلها لتكون في طليعة دول المنطقة، خاصة وهي تقع في إقليم يُعد من الأسرع نموًا اقتصاديًا في القارة الإفريقية. وبالتأكيد، يتطلب ذلك، منح الأولوية لتحقيق الاستقرار السياسي ومراجعة سليمة لما تحققّ من أهداف الاستقلال، إلى جانب توافق وطني حقيقي بين مكونات الدولة المختلفة ووعي قوميًّ متجدد لدى الجيل الصاعد كونه يشكل ما بين 60-70% من السكان وذلك حفاظا على الإرث والمجد الذي تركه الآباء المؤسسون وأنجزوه بإمكانات متواضعة وفي بيئة إقليمية ودولية أكثر تعقيدا . والزمن لا يرحم من يتأخر عن رَكبه.